الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة مهرجان الفيد بمرسيليا وما بعد: من غسان سلهب "حبر صيني" إلى جمال كركر "أطلال"

نشر في  27 جويلية 2016  (16:11)

بقلم الطاهر الشيخاوي

سمعت بعض متابعي المهرجان ممن يهتمون بالسينما العربية هنا بمرسيليا يقولون إن الدورة 27 للمهرجان الدّولي للسينما بمرسيليا لم تقدم عددا مرتفعا من الأفلام العربية ولكني لا أعتقد ذلك. أولا ليس من السهل تحديد النسبة المقبولة للأفلام العربية في المهرجانات من هذا النوع، ثم لا بد من الإقرار بأن كل الأعمال المقدّمة هذه السنة والقادمة من العالم العربي تتحلّى بقيمة فنيّة عالية. في كل الحالات، لا معنى لهذه الملاحظات العامة ولا جدوى لها، الأحرى متابعتها وقراءتها ومساءلة ما تحمله من معاني ودلالات.

 

لنبدأ بأهمها وهو شريط السينمائي اللبناني غسان سلهب « حبر صيني »، لا لأنه يندرج في المسابقة الدولية فقط ولكن لأنّه عمل راق وفي غاية التفرد. لم تكن كلّ التعاليق التي سمعتُـها عنه تنويها به، بل كان بعضها انتقادا وتعبيرا على خيبة أمل، والأمر لم يفاجئني بل كنت أتوقع ذلك لأن غسان سلهب ذهب في «حبر صيني» أبعد مما ينتظره متابعوه وحتى بعض من مناصريه. كانت أفلامه كلّها مجدّدة في تركيبتها السردية، بعيدة عن الخطية الكلاسيكية لا تتعاقب الأحداث فيها حسب التسلسل الوضعي الواقعي المعهود إلا أن المشاهد يمكنه متابعة الأحداث التي كانت دوما في علاقة مع السياق اللبناني.

في « حبر صيني » تجاوز غسان سلهب حدود ما رسمه في أفلامه السابقة، لا خطّية تذكر، وعوض أن تتوالى الأحداث جاءت في شكل طبقات وتداخلت مستويات الحكي وتظافرت مع عديد الإحالات السنمائية والأدبية اللبنانية والعالمية.

في البداية يتساءل سلهب حول استعماله للغة الفرنسية، ثم يؤكد حقّه في ذلك ملتجئا إلى عبارة كاتب ياسين «غنيمة حرب ». من هنا ينطلق الفلم، من اشكالية اللغة (لا ننسى أن سلهب شاعر أيضا) وازدواجية بل تعدد الثقافة لديه. بُني الفلم كلُّه على هذا الأساس، على تشابك هذه المستويات وتظافرها. نسيج مركب من مقتطفات أدبية وسينمائية (من بول سيلان، إلى عادل نصار، مرورا ببازوليني، وأوزو إلخ)… تجري في شرايين الفلم وتغذيه…

الطريف في الامر هو أن المرور من كلام إلى كلام ومن صور إلى صور لا يُحدث خلطا أو لخبطة بل يُؤسّس لتجانس عميق وسلاسة فائقة لها مع الشعر صلةٌ. إذ للمشروع منطق: أكثر من محاولة، « حبر صيني » رسمٌ لطيف بحبر صينى لخواطر شعرية نابعة من عمق ذهن سلهب. ذهن في جسد، جسد في بيت، بيت في شقّة، شقّة في بيروت، ذاك هو الجهاز. جهاز سمعي بصري على النافذة مُنحنٍ، يلتقط من المدينة  أخبارَها وأصداءَها القريبة والبعيدة. خواطر شعرية يَسَّرها استعمالُ آلة الهاتف الجوال آيفون 4 ونمطٌ من الإنتاج لم يلتجئ فيه سلهب إلا إلى وسائله الخاصّة.

الشريط الثاني والجدير بالوقوف عنده هو « أطلال » لجمال كركر، المخرج الجزائري الشاب الذي كنّا قد ذكرناه في مقالاتنا السابقة. شارك الفلم في المسابقة الفرنسية وحصل على جائزة أول عمل. فلم وثائقي وإن كان استعمال مثل هذه العبارات لا تعني في رأيي شيئا مهمّا لمن يسعى إلى الفهم والتذوّق.

شهادة سينمائية لأحداث تَـلتْ، مزّقت القرية في التسعينيات أثناء العشرية السوداء كما يقال. ليس الفلم بحثا في حيثيات المأساة ومُسبباتها ولا هو إعادة نظر فيما وقع وإنما وقفة سينمائية، مساءلة بالكامرا لآثار الحدث. لقطات طويلة للفضاء، بقايا بنايات محطمة، وأجزاء ماكينات، حطام من النباتات والأشجار، أرض قاحلة، انعدامٌ للكلام بدءًا كأن الأمر لا يستدعي كلاما أو كما لو كان الصمت صوتا.

قد يرى البعض في المسألة تلاعبا أو شطحات مخرج مبتدئ، ولكن يخطئُ من يرى ذلك. المقاربة تعتمد الزمن، زمنا مضى ولم يمض، توقفت دورة الحياة هنا في قرية ولاد علال ومرّت الناس في عجلة فكان الوقوف لزاما لِمحاولة إدراك ما جرى بل لمحاولة محاولة إدراك ما جرى. ثم شيئا فشيئا تدّب الحركة البشرية في المكان ويُفتتح الحقل على أفراد، وهم قلة، من سكان القرية ليتقدموا بشهادات حول أوضاعهم المعيشية البائسة… شريط في غاية من الاهمية يضاف لعدد أصبح لا يستهان به من أعمال تمثل علامات لاتجاه جديد في السينما الجزائرية الشابة.

ولنا كلام آخر عن أفلام تونسية… 

-صورة غسان سلهب : تصوير EDOUARD CAUPEIL/PASCO